"سبق" تعرض قصصاً تنزف ندماً وألماً لنساء ورجال تعايشوا مع مرض "الإيدز"

دعاء بهاء الدين - ريم سليمان – سبق – جدة: ترددنا كثيراً قبل الذهاب إلى الجمعية الوطنية لمرضى الإيدز، ودارت تساؤلات عديدة في أذهاننا "قلق وريبة" من رؤية مصابين بالإيدز ارتبط مرضهم دائماً في عقولنا بجرائم أخلاقية، بيد أننا نعترف أن الصورة اختلفت كثيراً بعد أن وطأت أقدامنا أرض هذا المكان.

التقينا أفراداً لا حول لهم ولا قوة، وُصموا بذنب لا علاقة لهم به.

"سبق" تعرض قصصاً تنزف ندماً وألماً لنساء ورجال تعايشوا مع المرض، لكنهم يسكبون الدمع بسبب نكران المجتمع لهم، ما جعلهم يعيشون فيه ويا للأسف الشديد منبوذون، مثل "خفافيش الظلام" حتى لا يفتضح أمرهم، بل إن منهم من كان يعيش بين أهله وعشيرته دون أن يعلموا عنه شيئاً.

مشاهد عديدة تطرح تساؤلات وعلامات استفهام، فهل ساهم الإعلام في إظهار الصورة السيئة والسلبية عن مرضى الإيدز؟ وهل يمكن أن يتقبلهم المجتمع كجزء فعال داخله؟

علاقات محرمة

"أم عبد الله" إحدى المتعايشات مع مرض الإيدز، تحكي لـ "سبق" تجربتها مع هذا المرض قائلة: لم أكن أعلم شيئاً عن مرض زوجي، ولكني طلبت منه الخلع عندما بدأ يتعاطى المخدرات وأقام أكثر من علاقة محرمة مع إثيوبيات، وأصررت على طلبي وبالفعل طلقني القاضي، وبعد شهرين توفى أبو أولادي، وبدأت أسمع كلاماً من داخل الحارة التي نعيش فيها عن أنه كان مريضاً بالإيدز، ووصل الكلام إلى أسرتي، أحسست وقتها أن الأرض تميد بي ولا أعلم ماذا أفعل إلى أن استجمعت قواي وذهبت إلى المستشفى لعمل التحليل وانتظرت أسبوعين مرا علي كأنهم عامان إلى أن ظهرت نتيجة التحليل بوجود فيروس الإيدز داخل دمي.

اسودت الحياة في وجهي حتى إن أمي رفضتني وقاطعتني، فيما وصمتني شقيقتي بالعار وعشت شبه معزولة عن العالم في غرفة داخل منزل بنات خالي وتناسيت أمي لأنها كانت تخاف مني وتخاف أن تجلس معي، وبدأت ألملم شتات نفسي إلى أن اتخذت قراراً بضرورة التحليل لأبنائي الأربعة، وحمدت ربي وارتحت كثيراً عندما علمت أن الفيروس لم يصل إليهم، وسجدت لربي أشكره على معافاة أبنائي.

جلست فترة لا أعرف ماذا أفعل وقررت أن أعمل كخادمة في إحدى الشركات حتى أستطيع أن أصرف على أبنائي وعملت سنة في الشركة ولا أحد يعرف شيئاً عن مرضي.

تعرفت بعدها على الجمعية وبدأنا في تناول الدواء وتحسن حالي كثيراً وكان للجمعية دور كبير في تأهيلي ومساعدتي بشتى الطرق، وتعرفت على عدد كبير من المتعايشات مع المرض خارج وداخل السعودية عن طريق الجمعية التي وفرت لنا أيضاً سلة طعام كل شهر وعدداً من البرامج الترفيهية والاجتماعية.

وهمست في أذني قائلة: كنت أتمنى أن يرجع زوجي للحياة مرة ثانية حتى أحاسبه عما فعله. ثم أقسمت بالله قائلة: لو كان بلّغني لاحتويته وعشت معه.

وتابعت: "ظلم نفسه وظلمني معه" وسكتت عن الكلام برهة ثم قالت: لا أخفي عليك.. أحتاج إلى زوجي جداً الآن، حتى إذا كان طريح الفراش، وكنت أتمنى لو كان معي حتى نؤازر بعضنا.

وأضافت: أخبرت أولادي الكبار بحقيقة مرضي، وطلبوا مني أن أسامح والدهم عما اقترفه تجاهي، أما صغاري فلم أستطع أن أواجههم بحقيقة مرضي حتى الآن.

رفضت ابنتي أن ألقي محاضرة عن المرض ضمن برامج الجمعية للتوعية داخل مدرستها حتى لا يعايرها أصدقاؤها بي. وقتها سألت نفسي سؤالاً لم أجد رده حتى الآن: إلى متى سيرفضني المجتمع؟ أم أني سأظل أدفع ثمن وصمة العار التي لم أقترفها، بقية عمري؟

صديق "غلس"

قصة أخرى لرجل يدعى أبو أحمد قال لـ "سبق" فيروس الإيدز كان في البداية صديق "غلس" لكني تأقلمت معه وصار مثل الأخ لي، وبات هو السبب في تحدي العقبات.

وعن سبب إصابته بالفيروس قال: في نقل دم ومراجعة أسنان، حيث كنت أعمل مدرباً، وبحمد الله تزوجت امرأة "متعايشة" مع المرض، وأحمد الله أن صار بيننا حب وحنان.

وناشد الإعلام بضرورة أن يكون حلقة الوصل بين المجتمع والمريض، قائلاً: من حقنا على الإعلام أن ينقل صورة صحيحة عن الإيدز، معرباً عن أسفه من تقصير الإعلام في دعم هذه الفئة.

انهيار وإنكار

 أما "أم يوسف" فقد سردت لـ "سبق" قصتها قائلة: علمت بمرضي صدفة عن طريق تحليل الدم أثناء حملي في الشهر التاسع، وحينها ولدت بعملية قيصرية، عند معرفتي بحقيقة مرضي أصبت بانهيار وإنكار لواقعي المرير الذي سأظل أعيش فيه طوال عمري، توفي زوجي تاركاً لي عبئاً ثقيلاً من المسؤوليات التي أنهكتني.

وقالت: تناولت مهدئات نفسية لمدة عام كامل بعد صدمتي بالمرض، ماتت ابنتي الوحيدة بعيب خِلقي، حمدت الله ومضيت في طريقي، ولم أخبر أحداً بمرضي سوى أفراد أسرتي، خوفاً من نظرة المجتمع وعدم رحمته بي.

وأضافت: بفضل الله علمتُ بالجمعية ولمست جهودها في دعم المرضى نفسياً ومادياً، ووجدت فيها ضالتي المنشودة، فبدأت بالاندماج فيها والمشاركة في أنشطتها من خلال حضور المحاضرات والمؤتمرات.

ثم تنهدت بعمق قائلة: أرعى أمي المريضة (بالفشل الكلوي) وأبي المريض بالصرع وأخي لا يعمل، أعيش من معاش زوجي في بيت شعبي قديم آيل للسقوط، لا أدري أين سأذهب.

وناشدت أم يوسف من خلال "سبق" أهل الخير لمساعدتها في ترميم البيت أو توفير سكن بسيط يؤوي أسرتها التي لا تريد لها أن تتعرض للذل والمهانة.

شخصية مميزة

وخلال تجولنا في الجمعية التقينا مع "أم سعيد" ولفتت انتباهنا بروحها العالية وحضورها المميز، واقتربت مني وبكل البشاشة حكت لـ "سبق" قصتها قائلة: لا تندهشي من ابتسامتي فأنا أحمد الله على كل حال، وبمنتهى الصدق أقول: لقد حذفت الفترة الأولى من معرفتي بالمرض من ذاكرة أيامي، فبعد موت زوجي ألهمني ربي الصبر وأمدني بطاقة نفسية إيجابية استطعت بها التغلب على العقبات التي واجهتني، فاليأس كلمة محذوفة من قاموس حياتي. وتابعت: بعد وفاة زوجي لم أخبر أحداً بحقيقة مرضي بل هيأت نفسي للعمل والإنفاق على أبنائي، فحصلت على دورات في اللغة الإنجليزية والحاسب الآلي، وعملت في استقبال أحد المستوصفات، وللأسف بعد معرفة الطبيب بمرضي طلب منى الاستقالة، فلم أيأس وذهبت لمستشفى آخر، وبعد عام ونصف وبمكيدة من أحد الأشخاص علمت المستشفى بالمرض فطلبوا مني الاستقالة أيضاً، ألهمني الله الصبر وتركت العمل وحالياً أعيش على راتب الضمان الاجتماعي بجانب معاش زوجي وبالطبع هذا لا يلبي متطلباتنا.

ابتسمت "أم سعيد" ثم قالت: أشعر بسعادة غامرة وأنا أحصد الآن عناء السنين، فالحمد لله أبنائي في المرحلة الجامعية، ومنهم من عقد قرانه، والصغيرة في المرحلة المتوسطة.

دمعت عيناها وهى تقول لي: أسعد بولدي المرافق لي في الملتقيات والمحاضرات التوعوية التي أحضرها، ويتم تكريمي فيها لنشاطي في مجال التوعية بالمرض، فالحمد لله هو فخور بي في كل مكان، ما أثلج صدري فأضحى عناء الأيام برداً وسلاماً على قلبي.

وطالبت في نهاية اللقاء المجتمع بمساندة الجمعية ودعم المرضى نفسياً ومادياً "كما أطلب منه أن يرفق بنا في نظراته الجارحة، فنحن لم نقترف ذنباً نحاسب عليه، وأيضاً أريد من الإعلام نقل الصورة الحقيقية عن مرض الإيدز ودور الجمعية المؤثر في دعم هؤلاء المرضى ومساعدة أسرهم".

وصم وتمييز

من جهتها أكدت رئيس مجلس إدارة الجمعية الوطنية لرعاية مرضى الإيدز الدكتورة سناء فلمبان أن عدد الحالات المصابة والمسجلة في الجمعية وصلت إلى 399، بينهم 317 رجلاً و 78 امرأة و 10 أطفال، أما عدد أطفال الأسر فوصل إلى 110 أطفال، وإجمالي عدد الأسر مع مخالطيهم المستفيدين بلغ 1472 شخصاً.

ورأت أن المصابين بالإيدز يعانون الوصم والتمييز، وهذا الوضع متعارف عليه في العالم كله ولا يقتصر على أي دولة، ما قد ينتج عنه رفض أو عدم تقبل بعض أفراد المجتمع لهم، والدخول في دوامة ما يترتب عليه الوضع من عدم تقبلهم في العمل والمعاملة بتخوف أو دونية أو فقدان الوظيفة وخلافه.

وأضافت فلمبان أن هذه النظرة الدونية تجاه مريض الإيدز لها علاقة بطرق انتقال الفيروس بشكل عام في العالم، حيث إن عدداً كبيراً من الحالات انتقل لها الفيروس عن طريق العلاقات الجنسية سواء كانت خلال الزواج أو خارج إطار الزواج، وسواء بالطرق السوية أو الشاذة، بيد أن هناك حالات كثيرة أخرى انتقل إليها الفيروس من الطرف الآخر خلال إطار الزواج، ولا يرتبط بالممارسات المحرمة، كما انتقل الفيروس إلى الأطفال دون أي أسباب جنسية أو خلافه.

دور الإعلام

وحول دور الإعلام تجاه مرض الإيدز قالت فلمبان: الإعلام له دور رئيسي في نشر الصورة الحقيقية عن طرق انتقال العدوى وأساليب الوقاية من الفيروس، وتحسين الصورة السلبية عن المتعايشين وإيصال صوت مريض الإيدز وحقه في الحصول على الحقوق الإنسانية التي تكفل له الحياة الكريمة، وتزويد المجتمع بالجرعات المختلفة عن المواضيع ذات العلاقة بالمرض، مشيدة بجهود العديد من الإعلاميين في تقديم الدعم النفسي والمعنوي للمتعايشين.

وأكدت أن هناك تعاوناً مشتركاً بين الجمعية والجهات القائمة على التعامل مع حالات الإيدز في وزارة الصحة في عدد كبير من المدن بخصوص التوعية الصحية وإحالة الحالات لتلقي مختلف أنواع الدعم، مؤكدة أن الجمعية لا تتكبد أي عناء في توفير الرعاية الصحية والوقائية بشتى أنواعها.

وأوضحت أن دور الجمعية يقتصر على توفير المساعدات والمعونات العينية والاجتماعية، مشيرة إلى أن من حق مريض الإيدز أن يعيش حياة مثل أي شخص سليم آخر، ويتمتع بجميع الحقوق في إنشاء أسرة أو استمرار أسرته الحالية أو الزواج أو الإنجاب، طالما أن هناك رعاية طبية ومتابعة صحية، على أن يحدد الطبيب المعالج ذلك، مع أهمية الاستمرار في المراجعة والمتابعة الصحية بشكل مستمر، فلا تمثل الإصابة بالإيدز بحد ذاتها أي عائق أمام المتعايشين.

أطفال الإيدز

 وفي ما يتعلق بالأطفال المصابين بالإيدز وكيفية تعاملهم مع مرضهم وإدراجهم في المدارس، قالت فلمبان: يتفاوت نوع وحجم المعلومات عن فيروس الإيدز التي تبلغ إلى الأطفال ويحدد ما يجب أن يتم إبلاغه لهم حسب العمر، وبالتالي يتم تأهيل صغار السن تدريجياً عن الفيروس وتعريفهم بما يجب عمله أو الابتعاد عنه، سواء في المدرسة أو خارجها، أو خلال ممارستهم لحياتهم العادية حتى يبلغوا السن التي يجب أن يعلموا فيها بجميع المعلومات عن الإيدز كي يحموا أنفسهم والمخالطين لهم.

نقص الوعي

وتحدث مدير الجمعية وعضو مجلس الإدارة موسى يحيى حيا زينع عن البرامج التي توفرها الجمعية للمتعايشين مع الإيدز من برامج نفسية واجتماعية وإعداد دورات داخلية وخارجية والعديد من ورش العمل مع مرضى من دول أخرى لنقل تجربة حية حتى أصبح هناك عدد كبير لا يمانع في الظهور الإعلامي.

وأشار إلى وجود العديد من البرامج التثقيفية تقدمها الجمعية للمريض وأسرته وبرامج خاصة للأطفال تساهم في الدعم النفسي، وكيف يصبح مريض الإيدز عضواً فعالاً في المجتمع، مؤكداً أن الشؤون الاجتماعية هي الداعم الأساسي للجمعية مع بعض التبرعات الخارجية.

ونوه إلى أن الجمعية تبذل جهوداً شتى للتوعية بمرض الإيدز وطرق انتشاره، وقامت بزيارة المجمعات التجارية، ونفذت حملات في المساجد والمدارس والمستشفيات، كما وفرت برامج توظيف وتزويج للأسر، حيث تم تزويج أكثر من 62 فرداً داخل الجمعية وتوظيف العديد من المتعايشين بالتعاون مع وزارة العمل.

وأعرب عن أسفه أن هناك بعض المدارس ترفض استقبال أطفال مصابين بالإيدز، ما قد يجعل العديد من المرضى يخفون مرضهم، مشيراً إلى وجود أكثر من حالة رفض الطبيب التعامل معها بمجرد أن عرف أنه مريض إيدز.

وقال: ما زال هناك بعض العاملين في الصحة ليس لديهم الوعي التام بمرض الإيدز.

وأكد أن فيروس الإيدز لا ينتقل إلا عبر العلاقات الجنسية ونقل الدم وإدمان المخدرات، أو من الأم الحامل لطفلها، وهناك الآن بعض الأمهات يلدن أطفالاً معافين، ويكون الحمل بإشراف طبيب وبمراجعته حتى لا ينتقل المرض للجنين، موضحاً أن نسبية سلامة أطفال المرضى تحت إشراف طبي وصلت إلى 99 %.

سهام قاتلة

ومن داخل الجمعية التقت "سبق" الأخصائية النفسية إيمان دوري التي أبانت أن الجمعية تساعد الحالات حتى تخرج من الوضع النفسي السيئ، لدمجهم مع آخرين وتوضيح الصورة الذهنية والمفاهيم الخاطئة حول الفيروس.

واعتبرت نظرة المجتمع بمثابة سهام قاتله لهذه الفئة، كاشفة عن المعاناة التي عانتها من أسرتها عندما علمت طبيعة عملها واحتكاكها مع مرضى الإيدز.

ووجهت رسالة إلى المجتمع بضرورة تفهم هذه الفئة، فهناك عدد منهم ضحايا "حتى لا نكون نحن والمرض عليهم".

محطم نفسياً

كشف الأخصائي النفسي في الجمعية محمود العبدلي أن مريض الإيدز "يأتي إلينا محطماً نفسياً ويشعر بنهاية العالم، متوجساً من نظرات المجتمع"، منوها بأهمية الدعم النفسي للمريض ليعيش حياة سوية ويتأقلم مع مرضه المرافق له طوال عمره.

وأكد العبدلي أهمية زيارة أسر المتعايشين مع الإيدز لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي، مشيراً إلى أهمية دورهم في احتواء المريض وإشعاره بالأمان وتشجيعه وإسداء عبارات التفاؤل له، وحذر الأسرة من إلقاء اللوم عليه أو قذفه بعبارات التجريح التي تؤثر في نفسيته، وربما تعرقل أداءه الوظيفي.
المصدر صحيفة سبق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق